تواجه تنمية المناطق المهملة تنمويًا، فيما يطلق عليه الأطراف أو الهوامش، في بعض الدول العربية مجموعة من العقبات، التي تتمثل في غياب حلقة الوصل بين البرامج والأجهزة التنفيذية المعنية بالتنمية المحلية، والمصاعب المالية للموازنات الحكومية، وتبعية موازنة المحافظات للموازنة العامة، والمقاومة المجتمعية لإعادة تنظيم المناطق العشوائية، وانتشار بقايا الجماعات المتطرفة والتنظيمات الإرهابية وخاصة في المناطق الحدودية النائية، وتدفق اللاجئين العابرين للحدود الرخوة وتمركزهم في بعض الأقاليم الفقيرة بما يفرض أعباءً مضاعفة.
وقد شهدت الأعوام القليلة الماضية بروز مؤشرات دالة على معضلة التنمية غير المتوازنة في عدد من الدول العربية أو الفجوة بين العواصم السياسية والإدارية والمدن الاقتصادية والسياحية من جانب وبقية مناطق الدولة من جانب آخر، مثل اندلاع احتجاجات مناطقية للمطالبة بالتنمية نتيجة ضعف الاستثمارات وتزايد معدلات الفقر وارتفاع نسب البطالة، وتبلور عرائض الإصلاح من ائتلافات المحتجين للحكومات لمعرفة خططها المستقبلية، وتنظيم مزيد من ورش العمل وحلقات النقاش بين جهات مانحة دولية ومؤسسات عربية وهيئات وطنية عن "العدالة المحلية" و"اللامركزية" وخطط الحد من الهجرة من الأرياف إلى المدن ومن المدن الصغيرة إلى الكبيرة ومن الأطراف إلى المراكز.
إن ثمة إشكاليات عديدة تواجه الأجهزة الحكومية في بعض الدول العربية للوصول إلى التنمية المستدامة المحلية، ومواجهة فجوة التنمية بين المركز والأطراف، يمكن تناولها على النحو التالي:
تشتت المخططات:
1- تعدد البرامج والأجهزة التنفيذية المعنية بالتنمية المحلية: وهو ما ينطبق على المملكة المغربية التي تشهد، وفقًا لبعض التقارير، تباعدًا في التنمية، لدرجة أن هناك ما يطلق عليه "المغرب النافع" (الرباط والدار البيضاء ومراكش وفاس) و"المغرب غير النافع"، حيث تم إهمال مناطق الريف الشمالي والشرقي والجنوبي والأطلس الكبير. وقد بدأت الحكومة مشروعات لسد هذه الفجوة في البنية التحتية والخدمات العامة منذ عام 2012 وسوف تمتد حتى عام 2022 لتصبح متساوية مع بقية مناطق المغرب.
وقد أشار إدريس جطو رئيس المجلس الأعلى للحسابات (هيئة مراقبة المال العام)، خلال تصريح له أمام البرلمان المغربي في 23 أكتوبر الجاري، إلى أنه "على الرغم من المجهود المالي للدولة في المجال الاجتماعي، وتعدد البرامج والأجهزة العمومية المكلفة إنجازها، فإن المغرب لم تتمكن بعد من تقليص الفوارق والحد من مظاهر الفقر والهشاشة في العديد من مناطق وجهات المملكة".
وأضاف أنه "حان وقت القطيعة مع وضعية التشتت، التي تعرفها الموارد العمومية المرصودة للمجال الاجتماعي، وتوزيعها بين مختلف المخططات والبرامج والأجهزة، وإغفال آثارها على الأوضاع الاجتماعية للسكان"، وهو ما يتقاطع مع ما سبق أن أكده الملك محمد السادس بدعوته إلى إعادة هيكلة شاملة وعميقة للبرامج الاجتماعية والسياسات الوطنية التي تم رصد عشرات المليارات من الدراهم لتكون مشتتة بين العديد من القطاعات الوزارية.
ولعل هذا التشخيص الملكي هو الذي دفع رئيس الحكومة سعدالدين العثماني إلى الإقرار بأن الدعم الحكومي لا تستفيد منه الفئات المعوزة ولا ينعكس على حياة المواطنين، بل إن الحكومة تعتزم اعتماد "السجل الاجتماعي الموحد"، وهو نظام لإحصاء الأسر الفقيرة لكى تستفيد من برامج الدعم الاجتماعي. كما دعا المجلس الأعلى للحسابات الحكومة إلى وضع تصور جديد للاستثمار العمومي يساهم في تحقيق تنمية متوازنة ومنصفة توفر فرص الشغل وتنمي الدخل وفق نموذج تنموي جديد قادر على الحد من الفوارق بين الفئات ومن التفاوتات بين المناطق.
عوائق مادية:
2- المصاعب المالية للموازنات الحكومية: والتي تجعل تطوير بعض الأقاليم غير ذات أولوية في بعض المراحل، وهو ما ينطبق على الجزائر التي تعاني من غياب التوازن الجهوي. فقد أكد وزير الداخلية والجماعات المحلية والتهيئة العمرانية نور الدين بدوي، خلال ترأسه لاجتماع تنسيقي بعدد من قيادات الوزارة في 2 أغسطس 2018 بمناسبة الاستعداد للعام الدراسي، على أن "الدولة حشدت إمكانيات مادية وبشرية كبيرة من أجل الارتقاء بالتنمية عبر كامل ربوع الوطن، مع إعطاء الأولوية للولايات الجنوبية والهضاب العليا والمناطق الحدودية، التي يجب أن تستفيد من نصيبها التنموي، إذ أن تعليمات رئيس الجمهورية عبد العزيز بوتفليقة تدعو لوضع الجنوب الكبير والهضاب العليا في قلب كل استراتيجيات الدولة".
وأوضح الوزير أن "إعادة إحياء صندوق تنمية الهضاب العليا والجنوب وحشد الموارد المالية لفائدة سكان هذه المناطق وكذا تنمية المناطق الحدودية التي استفادت من برامج تنمية واعدة وهامة، لأكبر دليل على إيمان رئيس الجمهورية العميق بتحقيق تنمية متوازنة تراعي خصوصيات كل مناطق الوطن"، وأضاف: "إن هذه المناطق استفادت أيضًا من قرار رئيس الجمهورية القاضي برفع التجميد عن العمليات التي لها أثر مباشر على حياة السكان، وذلك رغم الصعوبات المالية التي تمر بها البلاد، خاصة قطاعات التربية والسكن والصحة والمياه والطاقة، لما لها من انعكاسات مباشرة على الحياة اليومية للمواطنين وتحسينها".
كما أشار بدوي، على هامش حفل تسليم سكنات اجتماعية وريفية ببلدية تاكسنة بأعالي جيجل في 16 سبتمبر 2018، إلى أن "الحكومة مركزيًا ومحليًا ماضية للأمام ولن تتوقف عن مسيرة التنمية. هدفها المزيد من التنمية وحركية اقتصادية أنشط"، مضيفًا أن "التنمية لا نهاية لها رغم أن النقائص موجودة فعلاً. فالكثيرون روجوا منذ بداية الأزمة المالية لسقوط الجزائر، لكن الدولة لم توقف بناء المدارس والمستشفيات وواصلت المشاريع التي تهدف لرفاهية السكان"، وهو ما تم تفسيره كرد غير مباشر على مسيرة ورقلة الاحتجاجية للمطالبة بالتنمية في النصف الأول من سبتمبر الماضي.
أحزمة الفقر:
3- مقاومة مجتمعية لإعادة تنظيم المناطق العشوائية: على نحو ما يحدث حاليًا في العاصمة السورية دمشق، لا سيما بعد قتال سكانها إلى جانب قوات الجيش النظامي في مواجهة فصائل المعارضة المسلحة والتنظيمات الإرهابية، وهو ما تكشفه خطط النظام السوري لتنظيم مناطق "السكن العشوائي" المحيطة بأطراف مدينة دمشق وفق القانون رقم 10، الذي صدر بداية العام الجاري، ويجيز إحداث منطقة تنظيمية أو أكثر ضمن المخطط التنظيمي العام للوحدات الإدارية، وجاء تطويرًا للمرسوم 66 الصادر عام 2012 والقاضي بتنظيم منطقتين عشوائيتين ضمن دمشق وهما بساتين المزة وكفر سوسة.
وتتضمن الخطة عدة مراحل بحيث ستنتهي بحلول عام 2024، لمواجهة انتشار السكن العشوائي في البلاد، والذي يعادل نصف السكن الإجمالي ويتوزع على 147 منطقة، وفقًا لأحد التقديرات، والتي جرى بناءها منذ عدة عقود من قبل الفقراء القادمين من الأرياف، لا سيما مع تدهور قطاع الزراعة. وطبقًا لما أشار إليه المكتب المركزي للإحصاء التابع للنظام السوري في عام 2007، أى قبل اندلاع الأحداث بأربعة أعوام، فإن 46 في المئة من سكان مدينة دمشق يقيمون في "مناطق المخيمات" أو ما يعرف بـ"أحزمة الفقر" في ريف دمشق.
ونجح نظام الأسد في استعادة السيطرة على كامل الأحياء التي كانت تحت سيطرة المعارضة المسلحة وتنظيم "داعش" و"هيئة تحرير الشام"، حيث كان موظفو البلديات والمحافظة يتقاضون رشى مالية من السكان مقابل السماح لهم ببناء المنازل في تلك العشوائيات. ووفقًا لاتجاه سائد في الأدبيات، فإن النظام حرص على تشكيل بؤر سكنية عشوائية تحيط بالوحدات العسكرية القريبة من دمشق يكون تكوينها الأساسي من عائلات الضباط والعساكر، لتصبح كتلة صماء داعمة لبقاء النظام.
حواضن التطرف:
4- انتشار بقايا الجماعات المتطرفة والتنظيمات الإرهابية: إذ أن الأخيرة تتخذ من المناطق النائية موطنًا لتمركزها، وهو ما ينطبق على المناطق الطرفية والمجتمعات المحلية الحدودية في تونس خاصة بعد ثورة 2011، حيث استغلت الجماعات السلفية نافذة الفرصة بعد إطلاق سراح المئات من عناصرها من السجون، وعودة العديد من كوادرها البارزين من ملاذاتهم في الخارج، من أجل تعميق جذورها في الأحياء المهمشة والفقيرة التي تغيب عنها سلطة الدولة.
وقد نجحت الجماعات المتطرفة، بالتعاون مع التنظيمات الإجرامية، في ضم عدد من الشباب التونسي وتشكيل اقتصاد قائم على تهريب المخدرات والأسلحة والأفراد والنفط والسلع المدعمة، وتأسيس روابط اجتماعية في بن قردان قرب الحدود مع ليبيا، خاصة أن الأخيرة تشهد اضطرابات واسعة، وكذلك في جبل الشعانبي قرب القصرين حيث الحدود مع الجزائر، على نحو فرض صعوبات عديدة في تفكيك هذا التحالف الذي يستفيد من بقاء "اقتصاد المناطق الحدودية" سواء من الناحية الجنوبية أو الغربية، ويقاوم أية محاولات لاستعادة السلطة المركزية للدولة.
وعبر عن خطر تمدد الجماعات الإرهابية على التنمية اللواء محمود شعراوي وزير التنمية المحلية المصري، في تصريحات صحفية على هامش زيارته لمحافظة أسيوط في 19 سبتمبر 2018، قائلاً: "إن الإرهاب الذي شهدته محافظة أسيوط وانتشار الجماعات الإرهابية المسلحة خلال العهود السابقة منذ أحداث 1981 تسبب في غياب التنمية والاستثمار لعهود طويلة حتى ثورتى يناير و30 يونيو رغم تواجد المقومات بأسيوط خاصة ومحافظات الصعيد عامة"، مضيفًا أن "الإرهاب لا يواجه إلا بالتنمية".
أعباء اللجوء:
5- تدفق اللاجئين العابرين للحدود الرخوة: ويفرض ذلك أعباءً هائلة على الاقتصاد الوطني، وهو ما يمكن ملاحظته بوضوح فيما يخص تأثير اللاجئين السوريين على بعض المناطق الطرفية في الأردن، وانعكس على خطة الاستجابة الأردنية لتداعيات الأزمة السورية 2018-2020، وكذلك برزت شراكات بين البلديات والمجالس المحلية ومركز دراسات اللاجئين والنازحين والهجرة القسرية في جامعة اليرموك، بالتعاون مع وكالة التعاون الدولي لاتحاد البلديات الهولندي وبلدية امستردام، بهدف تعزيز التنمية المحلية المستدامة للمجتمعات المضيفة للاجئين في مجالات الاقتصاد والطاقة والمياه والغذاء والنقل.
تعزيز اللامركزية:
خلاصة القول، إن الفوارق التنموية بين الأقاليم والمناطق والمحافظات داخل بعض الدول العربية لا زالت تمثل إحدى المعضلات المستمرة التي تواجهها، منذ مرحلة ما بعد الاستقلال وحتى نهاية عام 2018، على الرغم من الخطط التنموية الخمسية فيما يخص تطوير البنى التحتية وتزويد السكان بالخدمات الأساسية كالتعليم والصحة والمياه والكهرباء وشبكات الطرق وتطوير المناطق الصناعية.
وربما يكون الخيار الأنسب هو تطبيق الإدارة اللامركزية بفاعلية في مجال تخطيط المشروعات وتوزيع الميزانيات على المناطق مع السماح لأصحاب القرار في المناطق ومجالس البلدية تحديدًا بتقديم الأولويات بما يحقق التنمية المتوازنة "التنافسية" بين المناطق، وقد يقود إلى هجرة معاكسة من المركز إلى الأطراف في حال التركيز على الموارد والإمكانيات التي تختص بها كل منطقة.
فضلا عن ذلك، لابد من توافر مصادر مختلفة لعوائد الموازنة بدلاً من التركيز على قطاع بعينه، بما يؤدي إلى رفع كفاءة الخدمات وتطوير المنظومة التي تجذب الاستثمار في كافة مناطق الدولة والتعامل مع الحدود الفاصلة بين منطقة وأخرى باعتبارها "استراتيجية" لا "جغرافية"، وبالتالي تنمية كافة المناطق الحدودية واعتبارها ركائز لأمن الدولة بدلاً من إهمال تنميتها لحساب المدن المركزية.